يصعب على كثير من الناس التوقف عن تناول الحلويات أو المشروبات الغازية، حتى وهم يدركون ضررها على صحتهم. قد تبدأ القصة بقطعة شوكولا صغيرة، لكنها لا تنتهي عندها، بل تفتح شهية لا تهدأ. هذا السلوك المتكرر جعل العلماء يتساءلون: هل يتعامل الجسم مع السكر كما يتعامل مع المواد المخدّرة؟
تشير الأبحاث الحديثة إلى أنّ السكر ليس مجرّد “سعرات حرارية فارغة”، بل مادة تؤثر بشكل مباشر في مراكز المكافأة في الدماغ، وتُطلِق مادة الدوبامين المرتبطة بالشعور بالمتعة. المثير للانتباه أنّ هذه هي نفس المناطق الدماغية التي تنشط عند تعاطي المخدرات أو التدخين.
لكن، هل يمكن القول إنّ السكر بالفعل إدمان؟ أم أنّه عادة غذائية سيئة يمكن السيطرة عليها؟ هذا ما سنحاول توضيحه في هذا المقال، استنادًا إلى أحدث الدراسات العلمية، مع عرض خطوات عملية لتقليل استهلاكه دون حرمان.

السكر والدوبامين: كيف يعمل نظام المكافأة في الدماغ؟
السكر لا يمنح جسمك طاقة فقط، بل يؤثر مباشرة على دماغك. عندما تتناول الحلويات أو المشروبات الغنية بالسكر، يقوم الدماغ بإفراز مادة الدوبامين، وهي الناقل العصبي المسؤول عن الشعور بالمتعة والمكافأة.
هذا الإفراز المفاجئ يخلق شعورًا سريعًا بالانتعاش والسعادة، لكن المشكلة أنّه قصير المدى. بعد فترة قصيرة، ينخفض مستوى الدوبامين بشكل حاد، ما يتركك في حالة رغبة قوية لتناول المزيد من السكر.
العلماء وجدوا أنّ هذه الدورة تشبه إلى حدّ كبير ما يحدث عند تعاطي المخدرات أو النيكوتين: اندفاع سريع للمتعة يتبعه انخفاض يثير الحاجة إلى جرعة جديدة. ومع تكرار هذا السلوك، يبدأ الدماغ بالتعوّد، ويحتاج إلى كميات أكبر من السكر ليشعر بنفس المتعة السابقة، تمامًا كما يحدث في الإدمان.
السكر والمخدرات: تشابهات مثيرة للجدل
عندما نسمع كلمة “إدمان”، غالبًا ما يخطر في بالنا الكوكايين، الهيروين، أو النيكوتين. لكن المفاجأة أنّ الأبحاث أظهرت أنّ السكر يفعّل نفس مناطق الدماغ تقريبًا التي تستجيب لهذه المواد.
مناطق الدماغ المشتركة
- النواة المتكئة (Nucleus Accumbens): وهي مركز المكافأة الرئيسي في الدماغ. تضيء بشكل واضح عند استهلاك السكر، تمامًا كما يحدث عند تعاطي المخدرات.
- المهاد (Hypothalamus): المسؤول عن تنظيم الشهية. الإفراط بالسكر يربك إشارات الشبع، ما يجعل الشخص يأكل أكثر من حاجته.
ما تقوله الدراسات
- في دراسة أجريت على الفئران، تبيّن أنّ الحيوانات فضّلت السكر على الكوكايين عندما أُتيح لهما الخيار، بسبب تأثيره الأقوى على الدوبامين.
- أبحاث على البشر أوضحت أنّ استهلاك السكر بشكل متكرر يخلق دوائر عصبية مشروطة، تجعل الشخص يربط السكر بالراحة أو المتعة، فيلجأ إليه عند التوتر أو التعب.
أين يكمن الجدل؟
بعض العلماء يرون أنّ وصف السكر بالمخدرات قد يكون مبالغًا فيه، لأنّه لا يسبب أعراض انسحاب جسدية قوية كالتي نراها مع الكحول أو الأفيونات. ومع ذلك، فإنّ التشابه في نمط السلوك والرغبة القهرية يضع السكر في دائرة المواد التي قد تؤدي إلى نوع من الإدمان السلوكي.
المشاكل الصحية الناتجة عن الإفراط في السكر
قد يبدو السكر بريئًا في كوب الشاي أو قطعة الحلوى، لكن استهلاكه المفرط يترك آثارًا عميقة على الجسم مع مرور الوقت. من أبرز هذه الآثار:
1. السمنة وزيادة الوزن
- السكر يرفع السعرات الحرارية بسرعة دون أن يمنح إحساسًا طويلًا بالشبع.
- المشروبات الغازية والعصائر المحلّاة مثال واضح: تحتوي على مئات السعرات، لكن الجسم لا يشعر بالشبع، ما يؤدي إلى تناول المزيد من الطعام.
2. مقاومة الإنسولين والسكري من النوع الثاني
- الإفراط في تناول السكر يرهق البنكرياس، ويزيد إفراز الإنسولين.
- مع الوقت، تبدأ الخلايا بفقدان حساسيتها لهذا الهرمون، ما يؤدي إلى حالة مقاومة الإنسولين التي تمهّد للإصابة بالسكري من النوع الثاني.
3. مشاكل القلب والأوعية الدموية
- الدراسات أثبتت أن الأنظمة الغذائية الغنية بالسكر تزيد من مستويات الدهون الثلاثية (Triglycerides) والكوليسترول الضار.
- هذا الارتفاع يزيد خطر تصلب الشرايين وأمراض القلب.
4. اضطرابات المزاج والطاقة
- السكر يرفع الطاقة بسرعة، لكنه يسبب “انهيارًا” مفاجئًا بعد فترة قصيرة.
- هذه التقلبات قد ترتبط بمزاج متقلب، شعور بالتعب، وحتى زيادة احتمالية الاكتئاب عند الاستهلاك المزمن.
5. صحة الأسنان
- السكر هو الغذاء المفضل للبكتيريا المسببة للتسوس.
- الاستهلاك المتكرر دون تنظيف الأسنان يؤدي إلى تآكل المينا ومشاكل اللثة.
هل السكر إدمان حقيقي أم مجرد عادة غذائية سيئة؟
الجدل العلمي حول السكر لا يتوقف. البعض يرى أنّه إدمان فعلي، فيما يعتبر آخرون أنّه مجرد عادة غذائية قوية. لكن أين الحقيقة؟
الأدلة التي تدعم فكرة “الإدمان”:
- تشابه مسارات الدماغ: كما ذكرنا سابقًا، السكر يفعّل مراكز المكافأة المرتبطة بالدوبامين، تمامًا مثل المخدرات.
- السلوك القهري: كثير من الأشخاص يجدون صعوبة في التوقف عن تناول الحلويات رغم معرفتهم بأضرارها.
- أعراض الانسحاب: عند تقليل السكر فجأة، قد تظهر أعراض مثل الصداع، التهيّج، والرغبة الشديدة (Cravings).
الأدلة التي تدعم فكرة “العادة”:
- السكر لا يسبب اعتماد جسدي قوي كالنيكوتين أو الكحول.
- يمكن السيطرة على الرغبة مع الوقت عبر تعديل النظام الغذائي وزيادة الألياف والبروتين.
- كثير من الدراسات تشير إلى أنّ السلوك الغذائي يتشكل بالعادات اليومية أكثر من كونه إدمانًا كيميائيًا صرفًا.
الخلاصة:
السكر ربما لا يندرج رسميًا تحت قائمة “المخدرات”، لكنه بالتأكيد يملك خصائص تجعل التعامل معه يشبه الإدمان السلوكي. ولذلك، تقليله يحتاج إلى استراتيجية واعية وليس مجرد قرار لحظي.
كيف تقلل السكر دون حرمان؟ خطوات عملية
الهدف ليس أن تحرم نفسك من كل ما هو حلو، بل أن تستعيد التحكم بدل أن تكون رهينة للرغبة. إليك أهم الاستراتيجيات:
1. البدء بالتقليل التدريجي
- تقليل السكر بشكل مفاجئ قد يسبب صداعًا ورغبة شديدة.
- الأفضل خفض الكمية تدريجيًا: مثلًا، إذا كنت تشرب كوب شاي مع ملعقتين سكر، اجعله ملعقة ونصف لأسبوع، ثم ملعقة واحدة.
2. استبدال المشروبات الغازية
- استبدل الصودا المحلّاة بالمياه الفوّارة مع شريحة ليمون أو نعناع.
- هذا التغيير وحده قد يخفض مئات السعرات يوميًا.
3. تناول بروتين وألياف أكثر
- البروتين (مثل البيض، الدجاج، البقوليات) والألياف (الخضروات، الشوفان) يساعدان على إبقاء مستويات السكر مستقرة ويمنحان إحساسًا أطول بالشبع.
4. استخدام بدائل طبيعية آمنة
- يمكن استخدام المحلّيات منخفضة السعرات مثل ستيفيا أو الإريثريتول كخيار مؤقت.
- لكن لا يُنصح بالاعتماد عليها بشكل دائم.
5. لا تحذف الفواكه
- الفواكه تحتوي على سكر طبيعي (فركتوز) لكن غنية بالألياف والفيتامينات، لذلك لا تسبب نفس المشكلة مثل السكر المكرر.
6. النوم وإدارة التوتر
- قلة النوم والضغط النفسي يزيدان الرغبة في الحلويات.
- تحسين نمط النوم وممارسة النشاط البدني يقللان من الرغبة المفاجئة بالسكر.
خاتمة
السكر ليس مجرد مكوّن عادي في طعامنا، بل مادة تؤثر مباشرة في الدماغ والمزاج، وقد تدفعنا لاستهلاكها بشكل متكرر يشبه الإدمان السلوكي. ورغم أنّه لا يُصنَّف رسميًا كمخدر، فإنّ الإفراط فيه يرتبط بزيادة الوزن، مقاومة الإنسولين، وأمراض القلب، إضافة إلى تقلبات الطاقة والمزاج.
التقليل من السكر لا يعني الحرمان، بل هو خطوة لإعادة التوازن والسيطرة. ومع اتباع استراتيجيات بسيطة كالتقليل التدريجي، اختيار بدائل صحية، وتناول بروتين وألياف أكثر، يمكن للجسم أن يستعيد استقراره وتقل الرغبة القهرية بالحلويات.
في النهاية، الأمر لا يتعلق بمنع السكر كليًا، بل بفهم حدوده والتعامل معه بوعي.
أسئلة شائعة (FAQ)
1. هل السكر البني أو العسل أفضل من السكر الأبيض؟
العسل والسكر البني يحتويان على بعض المعادن البسيطة مقارنة بالسكر الأبيض، لكن الفارق ضئيل جدًا. في النهاية، كلها مصادر لسعرات حرارية وسكريات سريعة الامتصاص، ويجب استهلاكها باعتدال.
2. كم غرامًا من السكر مسموح يوميًا؟
منظمة الصحة العالمية (WHO) توصي بألا يتجاوز الاستهلاك 25 غرامًا يوميًا (أي ما يعادل حوالي 6 ملاعق صغيرة) من السكريات المضافة، للحفاظ على صحة القلب وتقليل خطر السمنة.
3. هل الفواكه تسبب نفس أضرار السكر المكرر؟
لا. الفواكه تحتوي على سكر طبيعي (فركتوز) لكنها غنية بالألياف والماء والفيتامينات، مما يبطئ امتصاص السكر ويمنع الارتفاع المفاجئ في مستوى الجلوكوز. لذلك، الفواكه جزء صحي من النظام الغذائي.
4. لماذا أشعر أنني “مدمن” على الحلويات بعد وجبة؟
هذا يعود إلى إفراز الدوبامين وارتفاع سكر الدم بشكل سريع، ثم انخفاضه المفاجئ. هذا التذبذب يجعل الدماغ يطلب المزيد من السكر لإعادة الإحساس بالمتعة.
5. هل التوقف عن السكر فجأة يسبب أعراض انسحاب؟
نعم، قد يشعر البعض بصداع، تعب، تقلب مزاج، أو رغبة شديدة بالأكل الحلو. لكنها أعراض مؤقتة، وتخف تدريجيًا بعد أيام قليلة عند الالتزام بتقليل السكر.
مصادر
World Health Organization (WHO). Guideline: Sugars intake for adults and children. Geneva: WHO; 2015.
Avena NM, Rada P, Hoebel BG. Evidence for sugar addiction: behavioral and neurochemical effects of intermittent, excessive sugar intake. Neurosci Biobehav Rev. 2008;32(1):20-39.
جزء من شراكاتنا الإعلانية
DiNicolantonio JJ, O’Keefe JH, Lustig RH. Added sugar: a principal driver of type 2 diabetes mellitus and its consequences. Mayo Clin Proc. 2015;90(3):372-381.
American Heart Association. Sugar 101. heart.org.
Volkow ND, Wise RA, Baler R. The dopamine motive system: implications for drug and food addiction. Nat Rev Neurosci. 2017;18(12):741-752.
رياضي، مدوّن وصانع محتوى رياضي، أدرس حاليًا لأصبح أخصائي تغذية معتمد، وممارس للتمارين الرياضية منذ أكثر من 6 سنوات. خضت تجارب متعددة في عالم الرياضة، من الكيك بوكسينغ إلى الجري، والدراجة الهوائية، والباورلفتينغ، وصولًا إلى التمرين بالمقاومة الذي التزمت به دون انقطاع.
أسستُ منصة FitspotX بعد أن لاحظت كمية المعلومات المغلوطة المنتشرة في مجال الرياضة والتغذية، خاصةً ضمن المحتوى الكتابي. من هنا انطلقت رؤيتي لبناء منصّة متكاملة، تجمع بين الأدوات والمحتوى العلمي البسيط، لتساعدك على فهم التغذية بشكل أفضل، وتحقيق أهدافك الجسدية بثقة ومعرفة.