هل سبق لك أن حاولت التوقف عن تناول الحلويات، ثم وجدت نفسك عاجزًا عن مقاومة قطعة شوكولاتة صغيرة؟
هل شعرت بأن رغبتك في السكر تفوق قدرتك على السيطرة، وكأن هناك شيئًا ما داخلك يُلحّ عليك دون هوادة؟
ربما سمعت يومًا من يقول: “أنا مدمن سكر!”، فتساءلت: هل هذا التعبير مبالغ فيه؟ أم أن هناك حقيقة بيولوجية وراءه؟
في السنوات الأخيرة، تصاعد الحديث حول “إدمان السكر” ليصبح واحدًا من أكثر المواضيع تداولًا بين من يسعون لخسارة الوزن أو تحسين صحتهم. وبدأت عبارات مثل “السكر سم أبيض” أو “السكر أسوأ من الكوكايين” تظهر في عناوين المقالات والبرامج، ما زرع لدى الكثيرين شعورًا بالذنب والخوف من كل ما هو حلو.
لكن هل السكر حقًا مادة تُسبّب الإدمان بالمعنى العلمي؟
هل يتفاعل مع الدماغ بنفس طريقة المواد المخدّرة؟
أم أن ما نُسميه “إدمانًا” ليس سوى تعبير عن علاقة نفسية معقدة بالطعام، تتداخل فيها العاطفة والعادة والبيئة؟
هذا المقال ليس دعوة لتناول السكر ولا لتحريمه. بل هو محاولة لتفكيك المفهوم بعين علمية وعقل متزن. سنستعرض فيه:
- لماذا تميل أدمغتنا إلى طلب السكريات منذ الطفولة؟
- كيف يؤثر السكر على هرمونات السعادة والمكافأة؟
- هل هناك أدلة علمية تثبت وجود إدمان فعلي؟
- وما الفرق بين التعلّق السلوكي والإدمان الكيميائي؟
- وهل التخلّي عن السكر ضروري فعلًا، أم أن التوازن هو الحل؟
إذا كنت تشعر بأنك “ضعيف” أمام الحلويات، فربما المشكلة ليست فيك، بل في فهمنا للموضوع.

لماذا نحب السكريات؟
منذ ولادتنا، تميل حواسنا تلقائيًا إلى تفضيل المذاق الحلو. فحليب الأم يحتوي طبيعيًا على نسبة من السكر (اللاكتوز)، ما يربط بين الطمأنينة والمذاق الحلو في اللاوعي منذ الطفولة الأولى. هذا الميل ليس مجرد تفضيل عابر، بل هو استجابة تطوّرت عبر آلاف السنين لتزيد فرص البقاء، حيث كانت الأطعمة الحلوة مثل الفواكه تمثّل مصدرًا آمنًا للطاقة وسعرات حرارية سريعة.
عندما نأكل شيئًا يحتوي على السكر، يطلق الدماغ مادة الدوبامين – وهي ناقل عصبي مسؤول عن الشعور بالمكافأة والراحة والمتعة. وهذا ما يفسّر لماذا نلجأ غالبًا إلى الشوكولاتة أو الحلويات في لحظات التوتر، الحزن، أو حتى الملل. فالأمر لا يتعلق بالجوع فقط، بل بتنشيط نظام المكافأة في الدماغ.
والملفت أن هذه الاستجابة ليست قوية فقط، بل قد تصبح تلقائية بمرور الوقت، مما يجعلنا نربط تناول السكر بمواقف معيّنة، مثل مشاهدة فيلم أو الاحتفال، دون أن نكون جائعين فعلًا.
ما هو “إدمان السكر” فعليًا؟
مصطلح “إدمان السكر” شاع استخدامه في السنوات الأخيرة، لكنه ليس مصطلحًا طبيًا معتمدًا حتى الآن. الإدمان، كما يُعرّفه العلم، هو حالة مزمنة تؤدي إلى سلوك قهري لا يمكن السيطرة عليه رغم العواقب السلبية، ويترافق غالبًا مع تغييرات كيميائية في الدماغ تُشبه ما يحدث مع المخدرات أو النيكوتين.
عند الحديث عن السكر، نجد بعض الدراسات – خصوصًا تلك التي أُجريت على الحيوانات – تشير إلى أن استهلاك كميات كبيرة من السكريات قد يؤدي إلى زيادة إفراز الدوبامين بشكل مشابه للمخدرات، ما يخلق نوعًا من التعلّق القوي والمستمر.
لكن هذا لا يعني بالضرورة أن كل من يأكل الحلويات “مدمن” بالمعنى المرضي. فالإدمان الفعلي يتطلّب توفر عدة عناصر:
- فقدان السيطرة تمامًا على السلوك.
- الاستمرار رغم الضرر الجسدي أو النفسي.
- أعراض انسحاب واضحة عند التوقف (مثل الأرق، العصبية، التوتر).
والحقيقة أن أغلب من يصفون أنفسهم بأنهم “مدمنو سكر” لا يعانون من هذه الأعراض بشكل صريح، بل غالبًا ما يكون التعلّق بالسكر ناتجًا عن سلوكيات معتادة أو محفّزات عاطفية وليس بسبب تغييرات دماغية لا يمكن السيطرة عليها.
ذات صلة: هل يجب حقاً التوقف عن السكر نهائياً للحفاظ على صحة أفضل؟
الفرق بين التعلّق النفسي والإدمان البيولوجي
من الضروري التفريق بين “الإدمان البيولوجي” الذي يُغيّر كيمياء الدماغ ويؤثر على مراكز القرار والتحكم، وبين “التعلّق النفسي” الذي يتكوّن نتيجة عادات، تجارب عاطفية، وارتباطات اجتماعية.
الإدمان البيولوجي، مثل إدمان النيكوتين أو الكوكايين، يتسبّب بأعراض انسحاب جسدية حادة عند التوقف، ويجعل الشخص عاجزًا عن كسر السلوك حتى لو كلّفه ذلك صحته أو علاقاته.
أما التعلّق النفسي بالسّكر، فهو غالبًا ما يرتبط بمشاعر:
- التوتر أو القلق.
- الحاجة للراحة أو الهروب من الشعور بالفراغ.
- ربط الحلويات بلحظات مكافأة أو حبّ للذات.
بمعنى آخر:
أنت لا “مدمن بيولوجيًا” على السكر، لكنك قد تكون تعلّقت به لأنه أصبح وسيلة تلقائية لتعديل مزاجك أو مكافأة نفسك.
والدليل؟
الكثير ممن يعتقدون أنهم لا يستطيعون التوقف عن السكر، يتمكنون من تقليل كميته بسهولة نسبيًا عندما تتغير بيئتهم، أو يتبعون نظامًا غذائيًا منظّمًا، أو يحصلون على دعم نفسي جيد.
هذا لا ينفي أن بعض الأشخاص قد يُظهرون أنماطًا سلوكية شبيهة بالإدمان، لكن تبقى جذور المشكلة سلوكية ونفسية أكثر مما هي فسيولوجية.
ماذا تقول الدراسات العلمية الحديثة؟
رغم كثرة الحديث الشعبي عن “إدمان السكر”، إلا أن المجتمع العلمي لا يزال منقسمًا حول هذا المفهوم.
حتى اللحظة، لا توجد أدلة قاطعة تؤكّد أن السكر يسبّب إدمانًا بيولوجيًا بنفس الطريقة التي تسبّبها المخدرات أو المواد النفسية.
دراسات على الحيوانات:
بعض الدراسات على الجرذان أظهرت أن الاستهلاك المتكرر للسكر يمكن أن يؤدي إلى:
- إفراز مفرط للدوبامين في مناطق المكافأة بالدماغ.
- سلوكيات تشبه الإدمان، مثل الإفراط في الأكل، والقلق عند الانقطاع.
لكنّ المشكلة أن هذه الدراسات غالبًا ما تستخدم ظروفًا اصطناعية:
جزء من شراكاتنا الإعلانية
- حرمان طويل من الطعام، ثم تقديم السكر فقط.
- عدم توفّر خيارات غذائية متنوّعة.
- بيئة معزولة لا تشبه الواقع البشري.
دراسات على البشر:
أما في الدراسات التي أُجريت على البشر، فلم يُلاحظ وجود:
- أعراض انسحاب جسدية شديدة عند التوقف عن السكر.
- تغيّرات عصبية دائمة كالتي تُلاحظ مع الكحول أو الكوكايين.
- سلوك قهري لا يمكن السيطرة عليه (إلّا في حالات اضطرابات الأكل المرضية، مثل الشره المرضي).
أشارت مراجعة علمية نُشرت في مجلة European Journal of Nutrition إلى أن:
“السكر لا يفي بمعايير الإدمان الكلاسيكي، رغم أن استهلاكه قد يكون مفرطًا أو مقلقًا من ناحية سلوكية أو صحية.”
بمعنى آخر:
السكر قد يكون محفزًا قويًا للمتعة والسلوك المتكرر، لكنه لا يختطف دماغك كما تفعل المواد المخدّرة.
هل يجب التوقف تمامًا عن السكر؟
الجواب القصير؟ لا، ليس بالضرورة.
الشيطان ليس في السكر ذاته، بل في الكمية والسياق.
متى لا يكون السكر مشكلة؟
إذا كنت تستهلك السكر:
- ضمن حدود معتدلة.
- كجزء من نظام غذائي متوازن.
- دون أن يؤثر على صحتك الجسدية أو النفسية.
- دون أن تشعر بفقدان السيطرة أو الحاجة القهرية إليه…
فأنت لا تحتاج لحذفه كليًا. لا بأس بقطعة شوكولاتة من حين لآخر، أو كعكة في مناسبة اجتماعية.
متى يصبح السكر مشكلة حقيقية؟
إذا لاحظت أنك:
- تتناول السكر بشكل مفرط يوميًا (مشروبات غازية، حلويات، سناكات).
- تشعر بالذنب أو الندم بعد الأكل، لكنك تعود لنفس العادة.
- تحاول التوقف ولا تنجح، وتشعر بأعراض مثل القلق أو الغضب عند الانقطاع.
- تعاني من مشاكل صحية مرتبطة (مثل مقاومة الإنسولين، السمنة، التهابات مزمنة).
ففي هذه الحالة، الحدّ من السكر أو إزالته لفترة قد يساعدك على كسر الدورة السلوكية.
وليس المطلوب “الحرمان التام”، بل استبدال العادة تدريجيًا:
- تناول فواكه بدلًا من الحلويات المصنّعة.
- تعلّم التفريق بين الجوع الحقيقي والجوع العاطفي.
- بناء عادات تغذوية جديدة تعطيك نفس الإشباع دون ضرر.
خاتمة
السكر ليس عدوًا مطلقًا، ولا إدمان السكر حقيقة طبية مؤكدة كما يروّج البعض.
ما نعيشه في كثير من الأحيان هو تعلّق سلوكي وعاطفي، تغذّيه العادات اليومية، والضغوط النفسية، والثقافة الغذائية السائدة.
نعم، استهلاك السكر المفرط قد يؤثّر على صحتك، طاقتك، وحتى حالتك المزاجية.
لكن الحل لا يكون في التطرّف أو الحظر التام، بل في الوعي، التنظيم، وبناء علاقة صحّية مع الطعام.
حين تدرك متى ولماذا تلجأ إلى السكريات، وتبدأ بتغيير العادات بدلًا من جلد الذات، تصبح أنت صاحب القرار… لا رغبتك اللحظية.
ابدأ بخطوات بسيطة: راقب، عدّل، وكن صبورًا مع نفسك.
فكل عادة استمرّت سنوات، تحتاج وقتًا لتتفكّك… لكن النتيجة تستحق.
أسئلة شائعة
1. **هل فعلاً السكر يُحدث تغييرات في الدماغ تشبه المخدرات؟
نعم، بعض الدراسات (خصوصًا على الحيوانات) أظهرت أن استهلاك السكر يحفّز إفراز الدوبامين في مناطق المكافأة بالدماغ. لكن هذه التأثيرات ليست بنفس الشدة أو الخطورة التي تحدث مع المواد المخدّرة، ولا تعني بالضرورة وجود إدمان بيولوجي فعلي.
2. ما الفرق بين إدمان السكر والتعلّق النفسي به؟
الإدمان الحقيقي يتضمن فقدان السيطرة وأعراض انسحاب قوية، بينما التعلّق النفسي غالبًا ما يكون ناتجًا عن ربط السكر بالمشاعر، مثل الراحة أو المكافأة. وهذا النوع يمكن التعامل معه بسهولة من خلال تعديل العادات.
3. هل يجب الامتناع تمامًا عن السكر؟
ليس بالضرورة. الاعتدال هو الأساس. يمكن تناول السكر ضمن نظام غذائي متوازن، بشرط ألا يؤدي إلى الإفراط أو يؤثر سلبًا على صحتك أو سلوكك الغذائي.
4. كيف أبدأ في تقليل السكر دون الشعور بالحرمان؟
ابدأ بالتدريج، استبدل المشروبات المحلاة بالماء أو شاي الأعشاب، واستعن بالفواكه لإشباع رغبتك في الطعم الحلو. كما يمكن أن يساعدك تناول وجبات متوازنة بالبروتين والألياف على تقليل اشتهائك للسكر.
5. هل العسل أو سكر جوز الهند بدائل صحية؟
رغم أنها “طبيعية”، تبقى هذه البدائل مصادر للسكر وتؤثّر على سكر الدم. لا بأس باستخدامها باعتدال، لكن لا يجب اعتبارها صحية بالكامل أو استخدامها بإفراط.
مصادر
Westwater, M. L., Fletcher, P. C., & Ziauddeen, H. (2016). Sugar addiction: the state of the science. European Journal of Nutrition, 55(2), 55–69.
https://doi.org/10.1007/s00394-016-1229-6
Avena, N. M., Rada, P., & Hoebel, B. G. (2008). Evidence for sugar addiction: Behavioral and neurochemical effects of intermittent, excessive sugar intake. Neuroscience & Biobehavioral Reviews, 32(1), 20–39.
https://doi.org/10.1016/j.neubiorev.2007.04.019
Gearhardt, A. N., Corbin, W. R., & Brownell, K. D. (2009). Food addiction: An examination of the diagnostic criteria for dependence. Journal of Addiction Medicine, 3(1), 1–7.
https://doi.org/10.1097/ADM.0b013e318193c993
World Health Organization (WHO) – Guidelines on sugar intake for adults and children.
https://www.who.int/publications/i/item/9789241549028
Harvard School of Public Health – Sugary Drinks.
https://www.hsph.harvard.edu/nutritionsource/healthy-drinks/sugary-drinks/
رياضي، مدوّن وصانع محتوى رياضي، أدرس حاليًا لأصبح أخصائي تغذية معتمد، وممارس للتمارين الرياضية منذ أكثر من 6 سنوات. خضت تجارب متعددة في عالم الرياضة، من الكيك بوكسينغ إلى الجري، والدراجة الهوائية، والباورلفتينغ، وصولًا إلى التمرين بالمقاومة الذي التزمت به دون انقطاع.
أسستُ منصة FitspotX بعد أن لاحظت كمية المعلومات المغلوطة المنتشرة في مجال الرياضة والتغذية، خاصةً ضمن المحتوى الكتابي. من هنا انطلقت رؤيتي لبناء منصّة متكاملة، تجمع بين الأدوات والمحتوى العلمي البسيط، لتساعدك على فهم التغذية بشكل أفضل، وتحقيق أهدافك الجسدية بثقة ومعرفة.